فيْ رِحَابِ الأْمْس
ماذا يمكن أن يجمع اليوم بالأمس ؟ أو بالأحرى ؛ ما الذي
عساه يجمع بين عجزي بالأمس وقدرتي اليوم ؟
لطالما جال هذا السؤال بخاطري كلما تذكرت و عاينت عجزي عن
شيء بالأمس ؛ تُرى لو سمع الأمس ما يجول بخاطري الآن حوله من أسئلة ماذا تُراه
يصنع ؟ لو علم أن هؤلاء الناس جميعاً أو معظمهم ليس لهم حديث إلا عنه : لو علم أن
من الناس من يستنزل عليه اللعنات لأنه كان بائساً فيه : لو علم كم من المآسي تُحكي
كل لحظة على ألسن الناس والعهدة في صدق هذه المآسي على الأمس وحده : لو علم أن
احترام الناس له المبني على احترام القدر لم يدم أكثر من ساعات ودقائق ثم بدأ
الهمس يعلو والهمهمة ترتفع والثرثرة تدوي في طنين كطنين الذباب .
اعتقد لو أنه سمع ما يدور حوله من همز ولمز لصاح في
الناس يرد غيبته : أتسمون أنفسكم بشراً أيها المتخاذلون ؟ انصرفوا أيها اللكعاء ؛
دعوا الأمس واعملوا اليوم !!
شخصياً لا أعتقد ان الأمس يمكن أن يفعل هذا أو أن يُعير
هؤلاء اللكعاء أي انتباه ؛ إنه ما إن يبصرهم هكذا حتى يشخص ببصره عن أهل الأرض
جميعاً فلا يكونوا في حاضرهم منه في شيء إلا حسنات رفعها و أوزار لهم حفظها .
إذن سؤالي هذا لا معنى له عند الأمس ولا قيمة ؛ إنما هو
سؤال يفرضه عليّ فضولي و وقاحتي و خيالي المريض ؛ لكني رغم ذلك مُصر على معرفة جواب
سؤالي من الأمس شخصياً ؛ من أجل هذا تواقحت وتصافقت و قطعت سكون الامس في خلوته بحديثي
...
-
صباح الخير أيها الأمس .
- (ساخراً) ماذا تقول !!
-
أقول صباح الخير !! إنها تحيتنا التي عاينتها
بنفسك عند قدومك إلينا نحن معشر أهل الأرض .
-
أعرف أنها تحية
: ولكنها تحية توحي ببداية اليوم ولا يليق بك أن تذكر بداية اليوم في وجه الأمس
هكذا بكل صفاقة وكأنك تسخر منه .
-
عذراً عذراً ؛ لكني لم أقصد منها كل هذه
الإيحاءات !!
-
ذلك أنكم قوم
تجهلون قيمة الكلمة و قيمة اللحظة .
-
إذن ؛ وبكل حزن : مساء الخير أيها الأمس
الجميل .
-
ولا حتى هذه ؛ إنها تذكرني برحيلي عنكم إلى الأبد ولحظاتي
الأخيرة فيكم .
-
لقد حيرتني ؛ ماذا أفعل تحية لك و تقديراً
حينما أقبل عليك ؟
-
يكفي أن تُقْبل
على الأمس بوجه متجهم و قلب متتوق للغد .
-
لماذا رحلت عنا أيها الأمس ؟
-
عادي !
-
عادي !! ماذا تعني ؟!
-
أعني أني رحلت
كما يرحل كل شيء وكما سيرحل كل شيء في الوجود .
-
قتل الله الفلسفة التي ملأت عقول الناس
والخلق جميعا !
-
مالي أقرأ الضجر
والغضب من جوابي في وجهك !
-
أسألك عن رحيلك عنا و تركك فينا كل هذه الآلام
و إصرارك على إثبات عجزنا و رحيلك عنا بكل عزيز وحبيب فأرجوك لا تجيبني بهذه
الفلسفة القاتلة .
-
ويا عجباً للناس
؛ كأنكم ملكتم أعماركم و ضمنتم لأنفسكم دولتي الليل و النهار؛ فلا تفكرون إلا في زاد
الدهر و الحياة المتطاولة و لا ترتابون في أنكم تعيشون عمراً واحداً محدود ومع ذلك
تمنون أنفسكم بأحلام تفنى فيها أعمار كثيرة ؛ تلك مهمتي فيكم أن أخرج من بينكم أو
تخرجون أنتم مني ومنكم القانع ومنكم الضاجر .
-
تلك هي رسالتك في الحياة أيها الأمس !!؟
-
نعم ؛ وأن أخرج
منكم بحسناتكم وسيئاتكم و أن أحمل إلى رحابي بعض أحبابكم حتى أحتفظ لنفسي بذكرى في
عقول الأحياء منكم .
-
ماذا تقصد ؟!!
-
أقصد أنكم لن
تذكروني و تذكروا تاريخي إلا بموت فلان و قتل فلان لفلان و عجزكم عن شيء في تاريخي
: أفلا ترى أني إن رحلت عنكم بلا آثار فإنكم لن تذكروني و لن يبقى ذكرى في صفحات
تاريخكم معشر البشر ؟
-
لكن ذكرك في قاموس أكثرنا كُتب بحروف أشد
سواداً من قبعة الكاهن و بمداد دموع الثكالى والعاجزين .
-
فلتجفف النساء
دموعهن الغالية وحذار أن يُتلفن هدباً واحداً من أهدابهن الجميلة ؛ فالحياة كلها
لا تساوي هُدباً واحداً من أهدابهن الرقيقة ؛ أنا أعلم أنه لولا جلال القدر ورهبته
لألقيتم علىّ نعالكم ذات الكعوب العالية وغير العالية .
-
ذلك أنك أيها الأمس لم تعاين هَمّ من يحس
ويرى كيف يموت العزيز وكيف يتحول أحلى ما في حياته من أماني و أحلام إلى ذكرى .
-
لأنكم نسيتم أن
سنة الله فيكم ماضية و أمر الله لابد واقع و الموت من أوامر الله .
-
لكنك كنت قاسياً ولم تمهل رغبتي في السعادة
وتلك أيضاً رسالتي أنا في الحياة .
-
رسالتك أن تعيش
و تُمني نفسك بشهوات الحياة تريد أن تجمعها بين معطفك كمن يريد أن يغترف بحراً
بكأس !!
-
لا ؛ بل رسالتي أن أبني لنفسي مجداً ولا
مجد لمن ليس له مال وحين أملك المجد أكون في أهل الأرض الألف و الباء وتكون كلمتي
في الناس - ولو بظلم - هي القضاء وبالمال أملك سعادة نفسي .
-
إذا كنت تعتقد أن المال كان سبيلك للسعادة في رحابي فأنت واهم .
-
بل السعادة كل السعادة في مِلاك الأشياء
مجتمعة ولا يكون ذلك إلا للغني ؛ فيجعله غناه بالأشياء ملكاً لغده و ليومه و ملكاً
على الناس يقهرهم .
-
إن لم يكن الغني
من الناس يواسيهم ويسعفهم ويتخذ من المال سبيلاً إلى قلوبهم بالمساعفة والإحسان
ويأخذ لنفسه بقدر ما لها و يعطي منها بقدر ما عليها ولم يكن ذهبه عند دموع
البائسين و اسمه في دعوات المحتاجين فلا قيمة له عندي وعليه من لعنات الله
والملائكة والناس أجمعين ما يرافقه أيما منقلب ينقلب .
-
إنما طلبت المال في رحابك لأملك كل المتع
ولأستجلب ما لم أجده في فقري .
-
أوليس في الأرض
غير المال ما يمكن أن يُستلذ به ، وأين تلك السوق التي يبتاع منها المريض العافية
والحزين مسرة والهرِم شباباً والميت رجعة أخرى ؟؟
-
يبدوا أني أخطأت حين أقبلت عليك بأحلامي و
أمانيَّ ؛ لقد نسيت أنك لست مهداً للأحلام وإنما قبراً يقبرها , إنه لا أمل فيك
ولا رجاء .
-
إنما أنا خطوة
منك على طريق نهايتك فليست الأيام معنى حياتك وهدفها كي تسعي إليها هكذا ممنياً
نفسك بوهم الخلود .
-
إنما الحياة كل الحياة لي ، والمجد كل
المجد لي ، والسعادة كل السعادة لطويلي الأمال أمثالي رغم أنفك أيها الفقيد
المُسجى .
-
ماذا تقول ! هل
هذا سب !!
-
بل سخرية منك أيها الفقيد لأنك تتمثل الآن دور
الناصح الحكيم المتواضع بعد رحيلك ولو أني حدثتك في حياتك لملأت نفسي أملاً
ومُتعاً ومن ثَمْ ..سعادةً .
-
لو أن السعادة
مما تنبت الأرض و تسقي السماء أمام ناظريك ما كانت حينها أيضاً إلا بأمر من الله
وقدر ؛وقدر الله ألا سعادة إلا للقانعين الذين لا يزيدون في أحلامهم عن غايتهم في
إرضاء الله .
-
(ساخراً) وأين بقية الأحلام والمتع .. هل هي
نظريات ثَبُت فشلها الآن !!
-
وأين ما صبته
السماء من نيرانها وما أخرجته الأرض من وشيها وما تغنت به الطير من أغاريدها وما
صح وما فسد ، وما ضر وما نفع ،وماصدق وما كذب ؛ في كل لحظة تمتلئ الدنيا لتفرغ ثم
تُفرغ لتمتلئ وماضيها ومستقبلها مطرقتان يطحنان بالموت كل مار بينهما .
-
(ساخراً ) لقد رفعت الآن من معنوياتي حتى
لتكاد تلامس فلك الثُريا !!
-
أيها المغرور ؛
ما أراك إلا دائباً في طلب الحياة حتى تكاد تفقدها من شدة الطلب ؛ فإياك و إياها .
-
إيّاي و إيّاها !!!
-
نعم ؛ لا تأخذ
معنى الحياة من نفسك فإن لنفسك أغراضاً تريد أن تكون هي الحياة ؛ ولا تأخذه من
الأحياء فإن فيهم أغراض نفسك ؛ ولا من عمرك القصير .
-
ألم أقل لك ؛ وحده الغد من آخذُ منه معنى
الحياة .. لابد لي من لقاء معه .
-
لا ؛ بل خذ معنى
الحياة من القبور التي تملأ الرُحب والأفواة الصامتة التي لا تكذب ؛ واسمع للحياة
إن كنت تعرف لغتها أو اسمع للموت الذي يعرف كل حي لغته .
-
أسمع للموت !!
-
تماما ؛ كما
تقول .
-
أخطأتُ لما توهمتُ أني سآخذُ منك معنى
الحياة ومُتعها ؛ لابد لي من لقاء مع الغد أستمد منه روح الحياة ومعناها ، فإلى
اللقاء أيها الأمس المتشائم .أقسم أنه لا فائدة من مناقشة ( أمس ) مضى !!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يسعدني مشاركتك وإبداء أرائك في هذه المساحة