الخميس، 19 يناير 2012

إمرأة غلبت الشيطان !



إمرأة غلبت الشيطان !!

كانت دميمة تلك المرأة ! .. لم تعرف ربيع العمر ... ولكنها عرفت خريفه وشتاءه .. لم يورق لها أمل ، ولكن دموعها هطلت كالمطر ، والفرح تساقط من قلبها كأوراق الشجر ... وبرد الحرمان من متع الجسد قد ضرب من حولها نطاقاً ، إنها جزيرة الكآبة في محيط الكون ، هكذا تعيش ، وهكذا ستموت .. لن يضم خصرها رجل .. ولم تعرف شفتاها غير الصلوات لسماءٍ لا تسمع واللعنات على قدر لا يرحم ...
وفي ذات ليلة عصفت فيها الرياح الهوج ، وزمجرت الزوابع الثائرة ، لا خارج حجرتها ، بل داخل نفسها ... صاحت صيحة اهتزت لها أركان كيانها القبيح :
-
أيها الشيطان ... لم يبق إلا أنتَ !...
وأطرقت في شبه غيبوبة !... وإذا الجدران تنشق ويظهر لها الشيطان كما ظهر من قبل للعلامة " فوست " .. والشيطان لا يصم أذنيه عن الدعاء ... إنه مرهف السمع ، سريع في تلبية النداء ... قال لها :
-
ماذا تريدين أيتها المرأة ؟..
-
الجمال ... الحياة ... المتعة ... لفظتها كما يلفظ الظمآن كلمة " الماء " في تيه الصحراء ، فقال لها الشيطان :
-
أتعرفين الثمن ؟...
-
خذ الثمن الذي تريد !...

-
روحك أذهب بها إلى الجحيم !.. ذلك عملي في الأرض .. أسعى لجمع الأرواح أعمِّر بها مملكتي " جهنم " لنرى آخر الأمر أيهما الظافر بأكبر تعداد : أنا الجالس على عرش النار ، أو ذلك على عرش الفردوس ؟ ..
-
أعطني المتعة في الأرض عشر سنين ، ثم اذهب بي بعد ذلك إلى حيث شئت , إن الجحيم لا تخيفني ، فأنا الآن في جحيم !...
-
اتفقنا .. لكِ المتعة عشر سنين ,, وأنتِ لي بعد ذلك ..

وحرَّرا بدم المرأة الصك المعهود .. ووقَّعت عليه بإمضائها .. ومسَّ الشيطان بيده جسد المرأة .. فانتفضت .. وأشار لها بإصبعه إلى مرآة الخزانة .. فنظرت فإذا جمال يضيء منها كأنه شهاب .. إنه جمالها .. أهي صاحبة هذا الجسم ؟.. ألها هي هذه الروعة والفتنة والسحر ؟؟

وألقت المرأة نفسها في نبع الحياة تعبُّ .. وغمرت جسدها في بحر الملذَّات يغوص .. وجرفها تيار الأيام إلى السنة العاشرة ، فطفت على السطح كالقربة ، ارتوت وامتلأت بماء المتع وانتفخت ..

وجاءها الشيطان وفي يده الصك يذكرها بقرب الموعد .. فقالت له :
-
نعم .. أذكر ولم أنسَ .. ولكن ..
-
ولكن ماذا ؟ ...
-
هنالك متعة أشعر لها بظمأ ..
-
أهنالك من المتع ما لم تذوقيه بعد ..؟ ..
-
متعة الروح !.. تلك متعة لا بدَّ أن تأذن لي بها .. طبقاً للصك .. ألم تتعهد لي بأن تنيلني كل المتع في عشر سنين ؟.. أمامي شهران حتى أتمَّ المدة .. لقد سئمت المتع الجسدية .. بي عطش شديد للمتع الروحية.. أنلني متعة الروح أيضاً في هذين الشهرين ، وخذ روحي إلى الجحيم بعدها ..
-
لكِ ما أردتِ .. إني كما تَرَين ، أمين في تنفيذ الشروط ..

واختفى وترك المرأة .. فقامت لساعتها وخلعت دمالجها ونبذت بهارجها .. وارتدت الخشن من ثياب النسك وذهبت وأدَّت فرائض الحج .. وغرقت في التأملات السامية .. وانقطعت للأعمال الصالحة ، وأوغلت في الحياة العليا الطاهرة ، حتى انصرم الشهران ، وجاء الشيطان يطالب بوفاء العهد .. فإذا هو يرتعد لرؤية المرأة .. يا له من جمال يدثِّر كيانها ، ليس هو الجمال المضيء كالشهاب المحرق .. ولكنه نور عميق لطيف .. هو يعرف بالتأكيد مصدره العُلوي .. فارتاع منه .. ولكنه تجلَّد وتقدم نحو المرأة قائلاً :
-
حانت الساعة .. هيا معي إلى الجحيم !..
-
هلمَّ بنا ..
قالتها المرأة طيِّعة مُذعنة .. لا مُطلَ في لهجتها ولا في نيَّتها ، وسار الشيطان ، وسارت هي خلفه حتى بلغا باب جهنم .. فلما أحسَّ الزبانية بقدوم ملكهم ، فتحوا الأبواب على مصاريعها فدخل ملك النار ، وأرادت المرأة أن تدخل خلفه وتتبعه .. فما أن وضعت قدميها على العتبة ، حتى هبَّت في الجحيم ريح تراجعت لها ألسنة اللهب ، فدبَّ الذعر في قلوب الزبانية ، ودُهِش الشيطان وفزع وصاح وقد ردد صيحته أهل النار :
-
ما هذا ؟؟ ما هذا ؟
وهنا امتدت أيدي الملائكة حراس الجنة ، فاختطفت المرأة وهي تصيح قائلة للشيطان :
-
هذه المرأة لنا ..
-
فصاح الشيطان : بل هي لي .. روحها لي بمقتضى الصك .. انظروا !! ..
-
نحن لا ننظر في صكوك .. بل ننظر في أرواح .. هذا روح من أرواح الجنة..
-
بل من أرواح النار .. لقد دُمِغَ بطابع النار منذ عشر سنين ..
-
ولكن نسيم الجنة دخل فيه منذ شهرين ، هذا النسيم الذي ترونه أنتَ وزبانيتكَ كريح صرصر لا تطيقها نيرانكم ، ولا يقف في وجهها لهبكم ..
-
لقد خدعتني إذن هذه المرأة ؟؟ !!
وعندئذ صاحت المرأة وهي في أيدي الملائكة :
-
لم أخدعكَ .. إني وفية بعهدي .. خذني إلى الجحيم .. دعوني أيها الملائكة أذهب إلى الجحيم .. هكذا وعدتُهُ .. ومن الفضيلة أن أبِرَّ بوعدي ولا أنكث عهدي ولو مع الشيطان !..
-
فقال الشيطان : أسمعتم ؟ .. إنها لي .. دعوها تلحق بي ! ..
فجذبها الملائكة إلى الجنة وهو يقولون :
-
لوتنكَّرت لك الساعة وتنصلت لدفعنا بها إليك الآن ..
-
يا له من منطق !! إنها تصيح بكم مُعترفة أنها لي فيكون هذا حُجَة عليَّ ودليلاً ضدي ؟! .. لقد أقرَّت بالصك ... أقرت بأن روحها لي ...
-
نعم روحها الأول .. ولكن أين الآن روحها الأول ؟ لقد أعطتكَ روحها الأول فابحث عنه .. أما روحها هذا فهو لنا .. هلمِّي بنا أيتها المرأة الطاهرة ..
فتوسَّلت المرأة قائلة :
-
إنها جريمة أن أنكص عن الوفاء .. دعوني بربَّكم أذهب إليه وأكفِّر عن ذنوبي الأولى .. فقالت الملائكة للمرأة :
-
ليس لكِ ذنوب أولى .. لقد ذابت في نور طهركِ الأخير ..
-
إذن لا تعرضوني لذنب جديد : هذا المطل لصكٍ واجب الوفاء ..
-
لا شأن لكِ بهذا الأمر ! .. هلمي بنا .. هلمي بنا ..
فصاح الشيطان :
-
يا للعجب ! ... امرأة فاضلة تريد الحرص على شرف كلمتها ، فتأبون أنتم إلا تحريضها على سفالة الخلق ؟!
فقالت الملائكة :
-
أتعترف بأنها امرأة فاضلة ؟ ! .. إذن أين تذهب الفاضلات من النساء ؟ .. إلى النار أو إلى الجنة ؟..
وهنا ضاق الشيطان بالجميع ذرعاً ، فقال :
-
تباً لكم .. تباً لكم .. خذوها وخلصوني .. أليست روح امرأة ؟؟! إنها ليست أكثر من امرأة .. فلتذهب إلى .. إلى الجحيم .. أقصد إلى الجنة .. ولكني لن أنسى أنها أنها خدعتني .. نعم خدعتني يوم سَمَّت " الفضيلة " .. متعة ! ...
من تراث الراحل " توفيق الحكيم"
مايو 2011



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يسعدني مشاركتك وإبداء أرائك في هذه المساحة