الخميس، 19 يناير 2012

فكرة !!


فكرة !
– ما هذا الذي يهز جدران رأسي؟
– فكرة

– وما تريدين؟

– الخروج

– الآن؟ في جوف هذا الليل؟ والناس نيام، والنعاس يغلق مني هذه الأجفان؟!

– نعم، الآن... إذا لم أخرج الآن فلن أخرج أبداً...

– ألا ترين أني أتثاءب؟ وأني لا أكاد أتماسك؟! أو لا تستطيعين انتظاراً حتى الصباح؟!

– لا أستطيع انتظاراً.... الآن يجب أن أخرج....

– ولماذا اخترت لي هذا الوقت الذي أغرق فيه نوماً؟

– لست أنا التي تختار، لقد تكونت في رأسك، كما يتكون الجنين في بطن أمه، ونضجت للنزول...

– وكيف لم أشعر بك من قبل؟! كل ما شعرت به أن رأسي فارغ كالقربة المثقوبة...

– إني أتكون على غير وعي منك... منذ أمد بعيد... والآن قد تكونت، وحان موعد خروجي.

– خروجك إلى أين؟

– إلى الدنيا، إلى الورق... أنهض أيها الخامل وضعني على الورق، وانشرني على الملأ...

– يا لك من مغرورة! وماذا يجري للدنيا من خروج مثلك الآن؟!

– من يدري؟ ربما تغير وجهها.... وربما ازداد جمالها.... وربما أنقلب أمرها أخطر انقلاب!

– بكِ أنتِ؟!

– نعم.... بي أنا... وليست هذه أول مرة أفعل ذلك... فهذه الأهرام التي تبصرها من نافذتك إنما هي فكرة.... وهذه الكهرباء التي تضئ حجرتك كانت فكرة. وهذا الراديو الذي يسمعك صوت العالم هو فكرة... وهذه النهضات التي ظهرت في الأمم بدأت فكرة... وهذه الأديان التي سمت بالبشر برقت فكرة.... وهذا الفن الذي نعمت به الإنسانية لمع فكرة.... بل كل حضارة الآدميين على الأرض وليدة فكرة. وكل الفرق بين نوع الإنسان وفصائل الحيوان، أن الفرد من الإنسان يلد الفكرة، والفرد من الحيوان لا يلد الفكرة....

– وهل أنا وحدي الذي في رأسه فكرة؟.... أليست هناك فكرة في كل رأس من رؤوس هؤلاء الملايين من الناس؟...

– نعم.... ولكن قليلاً جداً من بينهم من تخرج له فكرة...
– إذن قيمتك أن تخرجي....

– نعم، وأعيش.... وهذا أندر أحداث الأرض... وإذا كان لك إلمام بالحساب، فتناول قلماً وورقاً وأنت ترى العجب... إن على الأرض أكثر من ألف مليون شخص ... فإذا فرضت أن مليوناً واحداً فقط ينتج في كل قرن من الزمان فكرة، لكان في العالم مليون فكرة حية في كل مائة سنة.... وهذا لا يحدث أبداً.... فإن القرن الذي ينتج عشر فكرات تعيش وتنفع الناس، يسمونه عصر النهضة، أو العهد الذهبي للبشرية!...

– لا يكفي إذن أن تخرجي من رأسي!....

– لا.... ليس هذا بكاف، إن الأفكار التي تخرج كل يوم من رؤوس المفكرين والشعراء والفنانين والعلماء كثيرة العدد.... واليوم، على الخصوص. قد تضاعف محصولها.... لأن صناعة التفكير قد أنقطع لها في العالم عدد وافر من محترفي الفكر.... يملأون الصحف والكتب أفكاراً، يزعمون كلهم أنها كونت من زبدة الخلود .... وهي في أغلبها لم تصنع إلا من شيء كزبدة الفطائر التي تذوب في الأفواه مع قدح الشاي كل صباح!...

– كنت أحسب المهم مجرد خروجك من الرأس!...

– المهم هو حياتي بعد ذلك.....

– ربما كان المهم أيضاً ليس مجرد حياتك.... بل طول هذه الحياة.

– صدقت! قد أحيا فقط سنة واحدة، كما تحيا البدعة أو "الموضة"... وهذا لي أسخف أنواع الحياة!

– كم سنة تريدين أن تعيشي إذا خرجت من رأسي؟....

– أكثر منك أعواماً على كل حال... أضعاف حياتك على الأقل... إني أتمنى أن أراك في التراب، قد نخر عظمك، وأنا في تمام صحتي واكتمال روعتي!

– لعنة الله عليكِ وعلى تمنياتك.....

– أو لا يسرك أن أعيش بعدك؟

– بل يسرني أن أعيش أنا بعدك ولو ساعة!....

– وماذا تصنع بعمرك، وقد ماتت أفكارك؟ ما طعم حياة الأب الذي فقد أبناءه، وعاش إلى آخر دهره وحيداً؟!

– هذا حقاً مؤلم.... وتلك مصيبة من ينجب الأبناء.... وما دام في إمكاني أن أمنع ميلادك.... فلماذا لا أفعل؟ إن في خروجك متاعب....

– وفي خروجي أيضاً مزايا!

– ما هي هذه المزايا؟

– أن تراني مخلوقاً تام التكوين يشبهك، ويذكرك بعيوبك، ويعيش أمامك مرآة لطباعك، وخزانة لصفاتك وفضائلك واستمراراً لوجودك، وقد يعجب الناس وينفعهم فيرضى غرورك.

– حقاً غرورنا وحده هو الذي يسمح لمثلك بالخروج.

– وهذا يحسن بي الانتفاع بهذه الطبيعة فيكم.... هيا أخرجني!....

– ولكنك لم تخبريني ما مصلحتك أنتِ في الخروج؟!

– ما أحمق سؤالك! أتستطيع أن تسأل خلية عن مصلحتها في الحياة؟ إن الرغبة في الحياة ملتصقة بذات وجودنا!

– أنتِ موجودة الآن في رأسي؟

– طبعاً... وهأنذي أصيح بك وألح طالبة الخروج إلى الحياة.

– انتظري إذن قليلاً، حتى أحضر قلماً وورقاً.

– حذار أن تبطئ...

– وما الضرر؟

– أحسّ أنفاسي توشك أن تخمد.... ونوري يوشك أن يخبو. لقد ناقشتني طويلاً واستنفذت قواي... ونهكتني وأتعبتني قبل أن أولد.

– يا لسوء الحظ!... القلم نسيت موضعه... أما الورق فلا يوجد الساعة غير هذه الورقة على المائدة ... وهي ملفوفة بها الفطائر التي أحضرتها لفطوري.... أما وقد أيقظتني من نومي اللذيذ،فلا أقل من أن أبدأ بالطعام ... فلا نفع لرأس ممتلئ، إذا كانت المعدة خالية.... تجملي بالصبر إذن، وانتظري حتى نفرغ من أمر الفم ثم نعنى بأمر العقل، وثقي بأني سأسرع ولا أجعلك تنتظرين طويلاً، وأثناء المضغ نبحث لك عن القلم الضائع، وهأنذا أبحث.... وها هو ذا قلم فوق الخوان... لا بأس الآن من إخراجك أيتها الفكرة... هلمي.... تكلمي..... أخرجي... يا للعجب!.... مالك؟ ما هذا الصمت؟ ما هذا السكوت؟ أين أنت؟ أين ثرثرتك التي أيقظتني؟ أيتها الفكرة؟ أنطقي! لا توقفي اللقمة في حلقي! أين أنتِ؟ هل ذهبتِ؟ هل متِ؟ وا أسفاه!.... لقد متِ قبل أن تولدي!
نعم، ما من شك في أنها ماتت في رأسي قبل أن تولد... أتراني أبطأت عليها؟ أتراه ذنبي أم ذنبها، ما علينا. فلتذهب هي إلى أعماق جهنم! وأنا إلى نهاية الأكل.... ثم إلى فراش النوم! ليست هذه أول مرة تصنع بي ما صنعت, ولست أنا أول من يحدث له هذا... إنما هي فكرة تولد وتموت.... أو تموت ولا تولد، كغيرها من ملايين الأفكار التي تهز رؤوس الملايين من الناس، ملايين المرات في ملايين اللحظات!
مايو 2011

هناك تعليق واحد:

يسعدني مشاركتك وإبداء أرائك في هذه المساحة